كيف عُثر على أعمق حطام سفينة في العالم؟
في عام 1944، غرقت السفينة “يو إس إس جونستون” بعد معركة ضد أكبر سفينة حربية في العالم. وبعد أكثر من 75 عامًا، جرى تحديد موقع حطامها أخيرًا، على بُعد ستة كيلومترات تحت سطح الماء.
في 23 أكتوبر/تشرين الأول 1944، بدأت الاشتباكات الأولى لمعركة بحرية عملاقة في خليج ليتي، وهو جزء من بحر الفلبين. وكانت هذه المعركة هي الأكبر من نوعها في تاريخ البشرية الحديث.
وخلال الأيام الثلاثة التالية، واجهت أكثر من 300 سفينة حربية أمريكية حوالي 70 سفينة يابانية. وكان لدى الأمريكيين ما لا يقل عن 34 حاملة طائرات – أقل بقليل من جميع حاملات الطائرات العاملة في جميع أنحاء العالم اليوم – وحوالي 1,500 طائرة. وكان الأسطول الجوي الأمريكي يفوق نظيره الياباني بخمسة أضعاف.
وكان لهذه المعركة تأثيران رئيسيان – فقد حالت دون تدخل اليابانيين في الغزو الأمريكي للفلبين (التي كان اليابانيون قد استولوا عليها قبل أربع سنوات تقريبًا)، وأبعدت البحرية الإمبراطورية اليابانية عن العمل في الفترة المتبقية من الحرب العالمية الثانية. وغرق ما يقرب من 30 سفينة يابانية، كما تعرض العديد من السفن المتبقية – بما في ذلك أكبر سفينة حربية جرى بناؤها على الإطلاق، وهي سفينة “ياماتو” – لأضرار بالغة لدرجة أن هذه السفن ظلت إلى حد كبير رابضة على الموانئ لبقية الحرب.
ورغم أن المعركة الأوسع شهدت تفوق الولايات المتحدة على الأسطول الياباني بشكل كبير، كان هناك إجراء واحد حاسم مختلف، إذ وجدت قوة صغيرة أمريكية – فرقة العمل 77، المكونة في الأساس من مدمرات وحاملات طائرات غير مدرعة – نفسها تقاتل تشكيلًا يابانيًا أكبر بكثير.
دارت المعركة بالقرب من جزيرة سمر. وكانت المقاومة الأمريكية شرسة لدرجة أنها دفعت القائد الياباني، نائب الأدميرال تاكيو كوريتا، إلى الالتفاف حول أسطوله، معتقدًا أنه يواجه الآن الجزء الأكبر من القوات الأمريكية. واقتربت المدمرات الأمريكية الصغيرة غير المدرعة نسبيًا من السفن الحربية اليابانية قدر الإمكان، وهو ما حرمها من استخدام مدافعها القوية بعيدة المدى. وحالت القوة الأمريكية الصغيرة دون وقوع مذبحة محتملة، لكن مقاومتها جاءت بتكلفة باهظة، إذ غرقت خمس سفن من السفن الأمريكية الـ 13.
وكانت إحدى هذه السفن الغارقة مدمرة تسمى “يو إس إس جونستون”. وبعد الساعة السابعة صباحًا بقليل، تعرضت جونستون لوابل من القذائف من “ياماتو”، لكنها واصلت القتال لمدة ساعتين أخريين، وهو ما أدى إلى إصابة سفن العدو بكثير من القذائف وإخافة أسطول من المدمرات التابعة للبحرية الإمبراطورية اليابانية التي كانت تحاول مهاجمة حاملات الطائرات الأمريكية المسلحة بأسلحة خفيفة.
وبعد ساعتين فقط من القتال، ومع تعرض السفينة الأمريكية لعشرات القذائف وتشبث الناجين بمؤخرة السفينة المدمرة، غرقت السفينة أخيرًا، وأخذت معها 186 فردا من أفراد طاقمها البالغ عددهم 327. وقالت إحدى الناجيات إن أحد قباطنة المدمرات اليابانية وجه لها التحية وهي تنزلق بعيدا تحت الأمواج.
لكن قصة هذه السفينة لم تنته بعد.
يجري العثور على معظم حطام السفن في العالم في المياه الساحلية الضحلة. وتتبع السفن طرق التجارة المؤدية إلى الموانئ، وتوفر المياه الساحلية فرصة الملاذ الآمن إذا أصبح الطقس سيئًا. وبالتالي، فهذا هو المكان الذي تغرق فيه معظم السفن. لكن المياه التي غرقت فيها السفينة جونستون مختلفة تمامًا، كما أنها لم تغرق ببطء، لكنها انخفضت بشدة إلى أعماق كبيرة.
تقع جزيرة سمر على حافة وادٍ بحري شاسع يُعرف باسم خندق الفلبين، والذي يمتد لمسافة 820 ميلاً (1,320 كيلومترًا) على طول الساحل الفلبيني والإندونيسي. وكانت السفينة تتحرك على الجانب الشرقي من جزيرة سمر، على الجانب المواجه للبحر من خليج ليتي، وهي منطقة عميقة جدًا، لدرجة أنه إذا وضعنا جبل إيفرست في أعمق نقطة في خندق الفلبين، والمعروفة باسم “عمق غالاتيا”، فستظل قمته على بُعد أكثر من ميل (1.6 كيلومترا) تحت سطح الماء!
ولا يعرف أحد بالضبط كم من الوقت استغرقت سفينة “يو إس إس جونستون” لكي تصل إلى قاع المحيط. لقد غرقت في طبقة بعد طبقة من بحر الفلبين، وهي مراحل تزداد قتامة وبرودة وصعوبة. ويبدأ ضوء الشمس في التلاشي على بُعد 100 متر (328 قدمًا). وبعد 200 متر (656 قدمًا) كانت السفينة جونستون قد دخلت منطقة الشفق، وهي طبقة شاسعة يبلغ عمقها حوالي كيلومتر واحد وتشير إلى نهاية تأثير ضوء الشمس على المحيط.
وكانت درجة الحرارة تنخفض كلما هبطت السفينة لأسفل. فعلى عمق 1,000 متر (3,280 قدمًا)، كان من الممكن أن يغرق هيكل السفينة جونستون المحطم في المياه ودرجة الحرارة لا تزيد قليلا عن درجة التجمد وصولا إلى ما يسميه علماء المحيطات “منطقة باثيال”، والمعروفة أيضًا باسم منطقة منتصف الليل.
ولا تنمو في هذه المنطقة نباتات أو عوالق نباتية، لأن ضوء الشمس لا يمكنه اختراق طبقات المياه والوصول إلى هذه المنطقة. ويكون الماء شديد البرودة، كما لا توجد حياة تذكر في هذه المنطقة القاتمة. وحتى الحيوانات التي تعيش هناك تطورت لتعيش في تلك المنطقة المظلمة والباردة للغاية. كما أن العيون غير مجدية، وينطبق نفس الأمر أيضا على الألياف العضلية سريعة الارتعاش، والتي قد تعتمد عليها الفرائس في أماكن أخرى للهروب من الحيوانات المفترسة. لكن هنا في الأسفل تستلهك الحيوانات الكثير من الطاقة لكي تعمل هذه الألياف العضلية.
وتبدو الأسماك التي تعيش في هذه المنطقة مثل تلك التي تسبح بالقرب من سطح الماء، فهي ناعمة وزلقة عند لمسها، وبعض هذه الأسماك أعمى والبعض الآخر شبه شفاف. فما فائدة التمويه إذا كانت الحيوانات المفترسة – مخلوقات مرعبة معلقة في الظلام – ليس لها عيون من الأساس؟
ويبلغ متوسط عمق محيطات العالم 3,688 مترًا (12,100 قدمًا)، أي أكثر من ميلين عمقًا. وفي مياه بمثل هذا العمق تقريبا غرقت السفينة “تيتانيك” في رحلتها الأولى المشؤومة في عام 1912. لكن السفينة جونستون ذهبت إلى ما هو أبعد من ذلك بكثير.
وعلى عمق 4,000 متر (13,123 قدمًا) توجد المنطقة المعروفة باسم “منطقة العمق السحيق”، حيث تزيد درجة حرارة المياه قليلا عن درجة التجمد، وحيث يصل الأكسجين المذاب إلى حوالي ثلاثة أرباع ذلك الموجود على سطح المحيط. كما أن الضغط شديد لدرجة أن معظم المخلوقات لا تستطيع العيش هناك.
وتحتوي الأسماك التي تعيش في هذه المنطقة، والتي تختلف عن نظيرتها التي تعيش في المياه الضحلة في كل شيء تقريبًا، على مادة مضادة للتجمد في دمائها للحفاظ على تدفق الدم في هذه البرودة الشديدة، بينما تحتوي خلاياها على بروتينات خاصة تساعدها على مقاومة ضغط الماء الشديد الذي قد يسحقها بطريقة أخرى. لكن المحيط لا يزال أعمق من ذلك.
وعلى مسافة أعمق توجد “منطقة الأخاديد القاعية العميقة” (هادال)، وهي طبقة أخرى توجد على عمق 6,000 متر (19,685 قدمًا) من سطح الماء. واكتشفت هذه المنطقة في أعمق خنادق المحيط، ومعظمها في المحيط الهادئ، حيث تتجمع الصفائح التكتونية العملاقة معًا بعيدًا تحت الأمواج.
وابتكر عالم المحيطات الدنماركي أنطون فريدريك برون هذا المصطلح في الخمسينيات من القرن الماضي، عندما تقدمت التكنولوجيا بما يكفي لإجراء أول استكشاف حذر لهذه الصدوع في الغواصات. وجاء مصطلح “هادال” من “هاديس”، الإله اليوناني القديم للعالم السفلي. إنها في ظلام دامس، وتزيد درجات الحرارة قليلا عن التجمد، ويزيد الضغط بنحو 1000 مرة عن الضط على مستوى سطح البحر.
أخيرًا، هذا هو المكان الذي يظهر فيه قاع خندق الفلبين، والذي يصل عمقه إلى نحو 10,000 متر (32,808 قدمًا أو 6.2 ميلًا)، وتصل أدنى نقطة به إلى 10,540 مترًا (34,580 قدمًا) تحت مستوى سطح البحر.
وفي مكان ما داخل هذا الخندق الشاسع تحت الماء، استقرت حاملة الطائرات جونستون أخيرًا. لكن كان من الصعب للغاية التنبؤ بموقعها بدقة، خاصة وأنه لا توجد آثار ولا سمات طوبوغرافية تساعد في تحديد المكان. وتحت الأمواج، يمكن للتيارات وأنماط المد والجزر المختلفة سحب حطام السفن بعيدًا عن المكان الذي غرقت فيه في البداية.
لقد مرت 75 سنة قبل أن يرى البشر السفينة جونستون مرة أخرى، وكان أول من فعل ذلك هو فيكتور فيسكوفو، البالغ من العمر 54 عامًا وهو ضابط استخبارات سابق في البحرية الأمريكية تحول للعمل كمدير لأحد صناديق التحوط ولديه شغف بالاستكشاف وعلم المحيطات. وعلاوة على ذلك، فقد تسلق جبل إيفرست وزار القطبين الشمالي والجنوبي.
وقال فيسكوفو لبي بي سي من منزله في تكساس: “لقد كنت متسلقًا للجبال لمدة تتراوح بين 20 و25 عامًا، وعندما قمت بالعديد من الأشياء التي أردت القيام بها هناك، بدأت أبحث عن تحد مختلف وفكرت في استكشاف أعماق المحيطات. واتضح أنه لم يتمكن أي شخص من الغوض في قاع المحيطات الخمسة في العالم، بل لم يصلوا حتى إلى قاع أربعة منها”.
وكان فيسكوفو يؤمن بأن المشكلة لم تكن تتعلق بالتكنولوجيا بقدر ما تتعلق بالتمويل. ويقول عن ذلك: “كانت هذه العملية مكلفة للغاية، لكنها ممكنة. لذلك قررت الإنفاق بسخاء، وجمعت الفريق معًا، وعلى مدى السنوات الثلاث التالية، صممنا وبنينا أعمق غواصة في التاريخ لتكون قادرة على الوصول لتلك المنطقة مرارًا وتكرارًا، وهو ما لم يكن موجودًا من قبل، ثم قمنا بجولة حول العالم”.
اختبر فيسكوفو غواصته الجديدة، التي تسمى “ليميتينغ فاكتور”، من خلال الغوص في قاع خندق بورتوريكو – أعمق نقطة في المحيط الأطلسي وثلثي عمق أعمق نقطة في محيطات العالم.
وفي أوائل عام 2020، كان فيسكوفو يشارك في مهمة علمية مع عالم محيطات فلبيني، وأصبحا أول من يغوصان في قاع خندق الفلبين. يقول فيسكوفو: “لقد كانت جزيرة سمر يوما ما ساحة لمعركة قوية. لقد كنت مؤرخًا عسكريًا منذ أن كنت طفلاً صغيرًا وكنت أيضًا في البحرية الأمريكية لمدة 20 عامًا، لذلك كنت أعرف الكثير عن هذه المعركة. واعتقدت أنها ستكون محاولة ممتعة للعثور على حطام السفينة”.
لم تكن محاولة فيسكوفو هي الأولى – فقد أسرت قصة جونستون العديد من المستكشفين وعلماء المحيطات على مر العقود. يقول فسكوفو: “كانت منظمة فولكان تتجول في جميع أنحاء العالم لإيجاد حطام السفن الغارقة في الحرب العالمية الثانية لسنوات عديدة. لكنهم كانوا مقيدين في قدرتهم على الوصول لعمق يتجاوز 6,000 متر (19,685 قدمًا)، لأنهم يستخدمون المركبات التي يجري تشغيلها عن بُعد فقط. لذلك، اكتشفوا بالفعل حطام السفينة جونستون – كانوا يحاولون أيضًا العثور على أعمق حطام – لكنهم عثروا على جزء منه فقط ولم يكن من الممكن التعرف عليه حقًا”.
كان العثور على جونستون أكثر صعوبة لأن مدمرة مماثلة، وهي “يو إس إس هويل”، غرقت أيضًا في نفس الاشتباك. يقول فيسكوفو: “لم يتمكنوا من تحديد هوية جونستون بشكل إيجابي. ولم يتمكنوا من الهبوط لعمق أكبر. كان الحد المستهدف لمركبتهم التي تعمل عن بُعد هو 6,000 متر (19,685 قدمًا). كان بإمكانهم أن يروا أن هناك المزيد من الحطام في الأسفل، لذا دفعوا المركبة إلى الأسفل 200 متر آخر (656 قدمًا)، مخاطرين بانفجارها، لكنهم لم يتمكنوا من رؤية غالبية الحطام”.
نجحت مهمة منظمة فولكان تقريبًا في تحديد مكان وجود جونستون، لكن الضغط الساحق في أعماق المحيط الهادئ منعها من تبديد أي شكوك في هذا الصدد. كان فيسكوفو يعتقد أن غواصته المصممة حديثًا قد تؤكد المكان بدقة. وبينما لم يكشف فريق منظمة فولكان عن الموقع، يقول فيسكوفو “لقد تذكرت الأيام التي كنت أعمل فيها كضابط استخبارات، وتمكنا من الاقتراب من المكان الذي ربما كانت موجودة فيه”.
غامر فيسكوفو والمؤرخ البحري باركس ستيفنسون تحت الأمواج في الغواصة على أمل العثور على الحطام.
يقول فيسكوفو: “لم يكن ستيفنسون قد مارس الغوص من قبل. وقلت له إنه سيشاهد أشياء غريبة بالأسفل. الرؤية مروعة، ويكون الأمر مربكا للغاية بمجرد النزول إلى ما دون 500 متر (640 قدمًا) أو 1000 متر (3,280 قدمًا)، ناهيك عن 6000 متر (19,685 قدمًا)! وكل شيء يكون أصعب. لكنه كان يقول إنه مقتنع بنسبة 99 في المئة بأنه سيجد حطام السفينة. لكن في أول مرة نغوص فيها بقينا بالأسفل لمدة أربع ساعات ولم نجد شيئًا”.
وفشل الغوص الثاني أيضًا في الكشف عن أي علامة على الحطام، لذلك انتقلا إلى موقع جديد في الغوص الثالث. كانت هذه المرة أكثر نجاحًا وأعادا اكتشاف الحطام الذي كانت قد عثرت عليه الغواصة التابعة لمنظمة فولكان.
يقول فيسكوفو: “باستخدام غواصتي، تمكنت من تتبع المسار الذي ذهبت فيه السفينة في منحدر تحت الماء، وتبعناها أسفل لمسافة 500 متر أخرى (1,650 قدمًا)، وعندئذ وجدنا الثلثين الأماميين من السفينة في حالة رائعة وسليمة وكان رقم التعريف البحري واضحا – 557. لقد نجحنا في تحديد موقعها”.
وكان العمق الذي استقرت فيه السفينة جونستون يتجاوز ستة كيلومترات. يقول فيسكوفو: “لقد غرقت في عمق يتجاوز العمق الذي غرقت فيه السفينة تيتانيك بمرة ونصف – وهذا عميق جدًا، فقد غرقت تيتانيك على عمق 4000 متر (13,123 قدمًا). ما كان مثيرًا للاهتمام حقا فيما يتعلق بهذا الحطام هو أن حجمه حوالي واحد على عشرين من حجم تيتانيك، لذا فهو أصغر كثيرًا”.
يمكنك قراءة الموضوع الأصلي على BBC Future