بقلم د. مجمد جميل الشبشيري
في محاضرة ألقاها الاقتصادي المعروف الدكتور محمد العريان في الكويت بدعوة من البنك الوطني، حاول توضيح مفهوم الثقة من خلال مثال بسيط من الحياة اليومية. أشار إلى أنه عندما تذهب لشراء وجبة من مطعم كنتاكي عبر خدمة السيارات (Drive-Thru)، تقوم أولاً بدفع قيمة الوجبة من خلال التحدث مع مسؤول الطلبات، ثم تتحرك بسيارتك لبضعة أمتار إلى نقطة استلام الوجبة. وأوضح أن هذه المسافة بين الدفع واستلام الوجبة هي الثقة، حيث تعتمد على افتراضك بأنك ستحصل على ما دفعت قيمته دون الحاجة إلى تحقق فوري أو ضمانات إضافية.
الثقة: ركيزة أساسية للعلاقات الاجتماعية والاقتصادية
وعلى هذا الأساس، يمكن تعريف الثقة بأنها حالة نفسية واجتماعية تعتمد على الإيمان والاطمئنان إلى نزاهة أو قدرة أو نوايا شخص أو مؤسسة أو نظام معين. إنها تتجلى في توقع الالتزام بالوعود أو التوقعات دون الحاجة إلى أدلة مادية مباشرة، مما يعكس مستوى من الاعتماد المتبادل وتحمل المخاطر التي قد تنتج عن عدم الوفاء بالتوقعات. الثقة، إذن، هي الركيزة الأساسية للعلاقات الاجتماعية والاقتصادية، حيث تتيح استمرارية المعاملات بسلاسة دون تعقيد.
العمل بلا حدود: الحاجة إلى تطوير سياسات الثقة
يشير تقرير “اتجاهات رأس المال البشري 2024” الصادر عن شركة ديلويت إلى أن الشركات بحاجة إلى التطور إذا أرادت الازدهار في عالم عمل بلا حدود. ولكن تحقيق ذلك يتطلب قدرًا كبيرًا من الثقة والتخلي عن النماذج القديمة المتعلقة بشكل العمل. ويرى آرت مازور، رئيس قسم رأس المال البشري العالمي في ديلويت، أن التغلب على الفجوة بين المعرفة والتنفيذ يتطلب من القادة التخلي عن العقليات والنماذج التشغيلية والمفاهيم القديمة.
يقول مازور: “عند وضع السياسات المتعلقة بالعودة إلى المكتب، يجب على القادة مراعاة العمل المطلوب إنجازه وكذلك تفضيلات الموظفين. وقبل أن تحدد المؤسسات مكان إنجاز العمل، يجب أن تفهم أولاً طبيعة العمل ومتطلباته. فقط بعد ذلك يمكن تصميم النموذج الأنسب لبيئة العمل.”
ومع ذلك، يبدو أن العديد من الشركات تتجاهل هذه الخطوة الاستراتيجية الأساسية وتتبنى سياسات العودة إلى المكتب التي لا معنى لها، خاصة في ظل البيانات التي تربط العمل عن بُعد والهجين بزيادة الإنتاجية. ورغم الأدلة القوية التي تدعم هذه الفكرة، يقول 85% من القادة إن الانتقال إلى العمل الهجين جعلهم يشككون في إنتاجية الموظفين.
الثقافة المؤسسية: غطاء لانعدام الثقة؟
وفقًا لتقرير ديلويت، يرى 60% من القادة أن الجائحة حسّنت ثقافة العمل. فلماذا تُستخدم الثقافة كذريعة رئيسية للمطالبة بعودة الموظفين إلى المكتب؟
ببساطة، من الأسهل الادعاء بأن التواجد في المكتب ضروري للحفاظ على الثقافة بدلاً من الاعتراف بعدم الثقة في الموظفين.
القوة الحقيقية للثقافة تكمن في تبني الثقافات المصغّرة على مستوى الفرق. وهذا يشمل تحديد مكان وزمان العمل. يقول مازور: “لا يوجد نموذج يناسب الجميع عندما يتعلق الأمر بالثقافة. بدلاً من ذلك، يجب على الشركات تعزيز الثقافات المصغّرة التي تناسب الفرق العاملة داخل المؤسسة.”
ويشير التقرير إلى أن الشركات التي تتبنى الثقافات المصغّرة أكثر احتمالًا بمقدار 1.8 مرة لتحقيق نتائج إيجابية على المستوى البشري و1.6 مرة لتحقيق نتائج تجارية مرغوبة.
سياسات العودة الإلزامية وتأثيرها على الثقة
ويضيف مازور: “نؤمن بأن قادة المؤسسات والمديرين والموظفين يجب أن يتشاركوا في وضع كيفية العمل بشكل مشترك.”
من وجهة نظر الموظفين، قد ينبع نقص الثقة من عدم اقتناعهم بأن المنظمة تهتم بمصلحتهم. أما من منظور أصحاب العمل، فإن الأمر غالبًا ما يتعلق بالشفافية والرؤية.
يقول مازور: “الثقة هي الرابط غير المرئي الذي يحافظ على العلاقة بين المؤسسات والموظفين. والثقة بين الموظفين وأرباب العمل أصبحت أقل مما كانت عليه في الماضي لعدة أسباب، مثل قرارات الاستعانة بمصادر خارجية، أو عمليات الاندماج، أو تخفيض عدد الموظفين، أو نماذج العمل المتغيرة، أو التحول الرقمي – جميع هذه العوامل قد تخلق بيئة من عدم الثقة بين الموظفين.”
وتُعد سياسات العودة الإلزامية إلى المكتب أحد الأسباب الرئيسية لتآكل الثقة. ووفقًا لشركة غارتنر، انخفضت رغبة الأداء الوظيفي بنسبة 16% بين الموظفين المميزين الذين تلقوا طلبًا بالعودة الإلزامية إلى المكتب. ويرجع ذلك جزئيًا إلى أن هذه السياسات تعكس إشارة إلى أن المؤسسة لا تثق في أفضل موظفيها لإنجاز العمل المطلوب.
دويتشه بنك كمثال على جدل العودة إلى المكاتب
وهذه الثقة محل جدل مستمر بين أرباب العمل والموظفين الذين اعتادوا العمل من المنزل خلال الفترة الماضية. يطالب أرباب العمل بعودة الموظفين إلى المكاتب، بحجة تعزيز الإنتاجية والثقافة المؤسسية، بينما يرى الموظفون أن العمل من المنزل قد أثبت فعاليته وكفاءته.
آخر هذه الدعوات جاءت من دويتشه بنك، الذي أصبح أحدث الشركات التي تتصدر العناوين بسبب تشديد سياساتها المتعلقة بالعمل عن بُعد. ومع ذلك، فإن مثل هذه الأخبار لم تعد استثناءً بل أصبحت القاعدة في ظل محاولات العديد من المؤسسات إعادة تشكيل بيئات العمل بعد الجائحة.