بقلم د. محمد جميل الشبشيري
ظهرت فكرة البنوك في العصور القديمة مع المعابد والبيوت التجارية، حيث كان الناس يودعون المعادن الثمينة كالذهب والفضة مقابل إيصالات تثبت ملكيتهم لها. ومع مرور الوقت، اكتشفت البيوت التجارية أن هناك ودائع ثابتة لا يُقبل الناس على طلبها بشكل دائم، مما شجعها على استغلال جزء صغير من الذهب المودَع أو إقراضه للآخرين، فظهرت فكرة تحقيق أرباح من الإيداع، والتي مهدت لاحقًا لنشوء النقود الورقية.
في العصور الوسطى، نشأت البنوك الحديثة في إيطاليا، لا سيما في مدن مثل فلورنسا والبندقية، حيث لعبت دورًا مهمًا في تمويل التجارة وتقديم القروض بفوائد. أما النقود، فقد تطورت من نظام المقايضة القائم على تبادل السلع مباشرة إلى النقود السلعية كالذهب والفضة، ثم إلى النقود الورقية المدعومة باحتياطي الذهب، وأخيرًا إلى النقود غير المدعومة (الائتمانية) التي تعتمد على ثقة المجتمع بالدولة والمؤسسات المالية.
مع الثورة الصناعية، توسع دور البنوك ليشمل تمويل المشاريع الكبرى مثل بناء السكك الحديدية والمصانع. وفي القرن العشرين، أصبحت البنوك مؤسسات أساسية تقدم خدمات متنوعة تشمل الإيداع، الإقراض، وتحويل الأموال. ومع تقدم التكنولوجيا، تطورت البنوك إلى مؤسسات رقمية، وظهر معها البنوك الإلكترونية والعملات الرقمية مثل البيتكوين.
النقود والبنوك التقليدية في النظام الإسلامي
على الرغم من انتشار البنوك التقليدية في المجتمعات الإسلامية، إلا أن طبيعة عملها تتناقض مع المبادئ الأساسية للاقتصاد الإسلامي. فالنظام التقليدي يعتمد على الإقراض لتحقيق أرباح من النقود نفسها، وهو ما يتعارض مع جوهر الاقتصاد الإسلامي الذي يعتبر النقود وسيلة لتيسير النشاط الإنتاجي الحقيقي وليس مصدرًا للدخل.
استجابة لهذه التحديات، ظهرت البنوك الإسلامية كبديل شرعي يعتمد على التراث الفقهي لتلبية احتياجات العملاء. استمرت البنوك الإسلامية في تحقيق معدلات نمو قوية في أصولها، حيث بلغ معدل نمو أصولها 4.0%، ليصل إجمالي أصولها إلى 54.8 مليار دينار مقارنة بـ 52.7 مليار دينار في العام السابق. في المقابل، نمت أصول البنوك التقليدية بنسبة 2.3%، ليبلغ إجمالي أصولها 55.6 مليار دينار مقارنة بـ 54.4 مليار دينار، وفقًا لتقرير الاستقرار المالي في الكويت لعام 2023. نتيجة لهذا النمو، اقتربت حصة البنوك الإسلامية من حصة البنوك التقليدية في إجمالي أصول القطاع المصرفي، مما يعكس تحولًا ملحوظًا في هيكل القطاع المصرفي الكويتي. ومع تقدم هذه التحولات، أصبح من الواضح أن النمو في البنوك الإسلامية ليس مجرد ظاهرة مؤقتة، بل هو استجابة حقيقية لاحتياجات اقتصادية واجتماعية.
هذا الاتجاه مرشح للتعمق مع تحول بنك الخليج واندماجه مع بنك بوبيان، مما يزيد من حصة البنوك الإسلامية في هيكل الجهاز المصرفي الكويتي.
وظيفة النقود في الاقتصاد الإسلامي
في النظام الاقتصادي الإسلامي، تؤدي النقود ثلاث وظائف رئيسية: وسيلة للتبادل، مقياسًا للقيمة، ومستودعًا لها. ومع ذلك، لا تُعتبر النقود مصدرًا للدخل أو سلعة يتم التعامل بها لتحقيق أرباح. ولهذا، يُحرم التعامل بالنقود من خلال القروض بفائدة، لأن ذلك يؤدي إلى الربا، وهو محرم شرعًا.
حرص المسلمون تاريخيًا على الحفاظ على استقرار النقود كمقياس للقيمة لتجنب الظلم، وأكدوا على أهمية إخراج النقود من دائرة المضاربات أو الربح غير المشروع. تحظر الشريعة بيع الدين بالدين أو تأجيل أحد البدلين في الصرف، مما يمنع تحول النقود إلى وسيلة للاستيلاء على الفائض الاقتصادي الناتج عن النشاط الإنتاجي.
وقد أكد علماء الإسلام، مثل ابن القيم -رحمه الله-، على ضرورة منع استخدام النقود كأداة للمضاربة. بل يجب أن تكون رؤوس أموال تُستثمر في النشاط الإنتاجي الحقيقي مثل الأدوات، الآلات، والموارد البشرية، حيث تتحقق القيمة المضافة الحقيقية.
يقول ابن القيم -رحمه الله-: “المحتسب يمنع جعل النقود متجرًا لما يترتب عليه من فساد. فالنقود يجب أن تكون رؤوس أموال يُتّجر بها، لا فيها.”
الخلاصة
يقوم الاقتصاد الإسلامي على مبادئ تسعى لتحقيق العدالة الاقتصادية من خلال توجيه النقود لدعم النشاط الإنتاجي والخدمات الحقيقية، ومنع استخدامها كوسيلة لجني الأرباح دون مشاركة فعلية في النشاط الاقتصادي. هذه المبادئ تجعل النظام الاقتصادي الإسلامي متميزًا ومتماشيًا مع أهداف التنمية المستدامة والعدالة الاجتماعية. وبذلك، فإن نجاح البنوك الإسلامية في تحقيق هذا النمو يعكس تحولًا جوهريًا في ثقافة التمويل في الكويت والمنطقة، ويعد مؤشرًا على إمكانيات جديدة للنمو الاقتصادي المستدام بما يتماشى مع مبادئ الشريعة الإسلامية.