سوريا وغاز شرق المتوسط.. سواحل النار وأمواج المصالح
إمكانات غاز واعدة في المياه الاقتصادية لسوريا
غلوبل الكويت : بعد أقل من شهر على انهيار نظام بشار الأسد في سوريا، لم يكن مستغرباً أن تسارع تركيا ولبنان إلى طرح ملف ترسيم الحدود البحرية وذلك لما يحمله هذا الموضوع من أهمية استراتيجية تتشابك فيها المصالح بين القوى الكبرى والدول المتشاطئة على شرق البحر الأبيض المتوسط، وهي منطقة كانت سوريا خارج حساباتها حتى الآن. ورغم أن العوامل الجيوسياسية تلعب دوراً أكبر من المسائل التقنية في هذا الملف، فإنه يمكن تقديم تقدير مبدئي لإمكانات الموارد البترولية في “المياه الاقتصادية السورية”، مع تسليط الضوء على أبرز التحديات التي قد تعيق عمليات الاستكشاف والاستثمار فيها.
من الناحية الجيولوجية، تغمر “المياه الاقتصادية السورية” أجزاء مهمة من ثلاثة أحواض رسوبية كبرى هي: المشرق (ليفانت)، وقبرص، واللاذقية. يُعد حوض المشرق الأهم بينها، حيث يمتد قبالة شواطئ مصر، وقبرص، وإسرائيل، ولبنان، وسوريا. وقدّر معهد الدراسات الجيولوجية الأميركي الاحتياطيات البترولية في هذا الحوض بحوالي 122 تريليون قدم مكعب من الغاز و107 مليارات برميل من النفط.
تأكدت هذه التقديرات عملياً مع سلسلة من الاكتشافات في المنطقة، حيث تم اكتشاف حقل “تمار” قبالة السواحل الإسرائيلية في عام 2009 باحتياطي يُقدّر بـ10 تريليونات قدم مكعب من الغاز، ثم تلاه حقل “ليفياثان” في عام 2010 باحتياطي 22 تريليون قدم مكعب. وفي الحوض القبرصي، اكتُشف حقل “أفروديت” عام 2011 باحتياطي 7 تريليونات قدم مكعب، ثم حقل “كاليبسو” عام 2018 باحتياطي 4 تريليونات قدم مكعب، وأخيراً حقل “غلافكوس” في عام 2019 باحتياطي يُقدر بـ6 تريليونات قدم مكعب.
الإمكانيات البترولية قبالة الساحل السوري
أجريت عدة مسوح زلزالية قبالة الساحل السوري في الأعوام 1975و 2003 و2005، وخلصت معظم هذه المسوح إلى الأهمية البترولية للمناطق البحرية الواقعة ضمن “المياه الاقتصادية السورية”. كما كشف رصد الأقمار الصناعية عن تسربات بترولية (نفطية وغازية) في عرض البحر قبالة السواحل السورية، وكذلك على اليابسة قرب مدينة اللاذقية.
وفي عام 2009، قامت الشركة السورية للنفط بحفر “بئر اللاذقية-4” في موقع التسرب النفطي, الذي لوحظ فيه وجود شواهد بترولية في عدة طبقات (أعماق) مما يثبت وجود نظام بترولي في الأقسام الأعمق من الحوض (تحت قاع البحر) التي يهاجر جزء منها عبر الصدوع إلى الأجزاء الأعلى (اليابسة) مع امكانية استقرار قسم منها ضمن التراكيب الخازنة للغاز في حقول (أبو رباح؛ قمقم؛ الشريفة؛ شمال الفيض) غرب سوريا والتي قدرت احتياطاتها بأكثر من 47 مليار متر مكعب من الغاز.
النظام يزايد على غاز المتوسط!
في عام 2011، طرحت المؤسسة العامة للنفط في سوريا ثلاث مناطق (بلوكات) بحرية ضمن المنطقة الاقتصادية الخالصة السورية في مزايدة عالمية لاستكشاف واستثمار الموارد الطبيعية. ومع ذلك، لم تلقَ هذه المزايدة أي عروض جدية من الشركات الكبرى، بسبب العقوبات الدولية المفروضة على القطاع النفطي السوري آنذاك.
وفي عام 2015، وبدعم من الوجود العسكري الروسي في حوض شرق البحر المتوسط، وقّعت شركة “سيوزنفت غاز” الروسية عقداً مع الحكومة السورية لاستثمار الغاز الطبيعي في المياه الإقليمية السورية لمدة 25 عاماً. لاحقاً، صرّح رئيس شبه جزيرة القرم، المعترف بها من روسيا فقط، عن إمكانية إرسال منصات الحفر البحرية التابعة لشركة “تشيرنومورنفت غاز” إلى الشواطئ السورية للتنقيب عن الغاز. لكن هذا المشروع لم يُنفذ بسبب تصاعد التوترات في منطقة شرق البحر المتوسط، وما أعقب ذلك من سقوط النظام.
القانون الدولي وحدود الأمر الواقع
تتداخل الحدود البحرية السورية مع لبنان جنوباً، وتركيا شمالاً، وقبرص وجمهورية شمال قبرص (المعترف بها من تركيا فقط) غرباً. وتجدر الإشارة إلى أن سوريا وتركيا لم توقّعا على اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار، التي تنص على أن “المناطق الاقتصادية البحرية الخالصة تمتد إلى 200 ميل بحري من خطوط الأساس، بينما يُحدد الجرف القاري بناءً على المعطيات الجيولوجية ويمتد إلى ما يتجاوز 200 ميل بحري”. أما لبنان، فقد وقّع على الاتفاقية، وقام في عام 2010 بإيداع إحداثيات حدوده البحرية لدى الأمم المتحدة بشكل أحادي.
من جانبها، اعتمدت الحكومة السورية نظام الأبعاد المتساوية لترسيم الحدود البحرية وتحديد “المنطقة الاقتصادية الخالصة”، التي بلغت مساحتها حوالي 9957 كيلومتراً مربعاً. وتم تقسيم هذه المساحة إلى ثلاث مناطق (بلوكات) بحرية مرتبة من الشمال إلى الجنوب كالتالي:
البلوك 3: يقع قبالة ساحل مدينة اللاذقية، ويتداخل شمالاً مع الجرف القاري التركي لمسافة تتراوح بين 8 إلى 15 ميلاً بحرياً.
البلوك 2: يقع قبالة ساحل مدينة بانياس.
البلوك 1: يقع قبالة ساحل مدينة طرطوس، ويتداخل مع “البلوكين” 1 و2 اللبنانيين بمساحة تُقدّر بـ 750 كيلومتراً مربعاً وألف كيلومتر مربع على التوالي.
استعراض القوة و”الوطن الأزرق”
يكتسب ملف غاز شرق المتوسط أهمية استراتيجية كبرى بالنسبة لتركيا، نظراً لاعتمادها الكبير على الغاز كمصدر رئيسي للطاقة. وقد دفع ذلك حزب العدالة والتنمية الحاكم في تركيا إلى إعادة تفعيل مفهوم “الوطن الأزرق”، الذي يشير إلى المياه الاقتصادية التركية في البحار المحيطة بها. وفقاً لتقديرات مؤسسة البترول التركية، فإن احتياطيات الغاز في هذه المناطق يمكن أن تغطي احتياجات البلاد من الغاز الطبيعي لمدة 816 عاماً.
أما في لبنان، فقد قدّرت وزارة الطاقة اللبنانية احتياطيات الغاز الطبيعي في مياهه الإقليمية بـ30 تريليون قدم مكعب، إلى جانب 660 مليون برميل من النفط. وقامت الوزارة بتقسيم المنطقة الاقتصادية إلى عشر بلوكات بحرية. وقد أظهرت المسوحات التي أجرتها شركات “توتال” الفرنسية، “إيني” الإيطالية، و”نوفاتيك” الروسية وجود إمكانات اقتصادية واعدة للغاز في البلوكات الجنوبية (8 و9). غير أن النتائج غير المشجعة من بئر “قانا” غير المكتمل، إضافة إلى تداخل المنطقة مع “المنطقة الاقتصادية الإسرائيلية”، أثارت مخاوف الشركات وجعلتها تتردد في الاستثمار الجدي في تلك المناطق.
هل يوجد غاز قبالة الساحل السوري؟
تشير المعلومات المستخلصة من المسوحات الزلزالية قبالة الساحل السوري، إلى جانب نتائج الآبار التي حفرتها الشركة السورية للنفط على اليابسة بالقرب من خط الساحل، إلى إمكانات واعدة في “المياه الاقتصادية السورية”. وعند مضاهاة هذه النتائج مع معطيات الحقول المكتشفة في شرق المتوسط، تظهر مؤشرات مشجعة؛ حيث قدرت الهيئة الجيولوجية الأميركية احتياطيات الغاز في المياه السورية بحوالي 700 مليار متر مكعب.
وبحسب الخبير الجيوفيزيائي المقيم في لندن سومر عبد اللطيف، تتوزع التراكيب الواعدة ضمن “المياه الاقتصادية السورية” على عدة تشكيلات (خزانات) يمكن تصنيفها حسب العمق كما يلي:
- تراكيب عميقة: توجد ضمن الطبقات الكلسية، على عمق يتجاوز 4000 متر تحت سطح البحر.
- تراكيب متوسطة العمق: تقع ضمن الطبقات الملحية، على أعماق تتراوح بين 3000 و4000 متر تحت سطح البحر.
- تراكيب سطحية: تتمركز في المصائد الصدعية، على أعماق تتراوح بين 1000 و3000 متر تحت سطح البحر.
مع ذلك، تبقى عمليات حفر الآبار الاستكشافية البحرية العامل الحاسم في إثبات حجم الاحتياطيات ومدى قابليتها للاستثمار التجاري ضمن هذه التراكيب.
صراع الغاز ودبلوماسية الشركات
مع سقوط نظام بشار الأسد واحتياج سوريا الشديد إلى استثمار كافة الموارد المتاحة لإعادة الإعمار، يبرز غاز شرق المتوسط كأحد الموارد الحيوية لتحقيق هذا الهدف. يأتي ذلك في وقت تشهد فيه المنطقة تطورات متسارعة، منها إصرار تركيا ولبنان على تسريع ترسيم الحدود البحرية، ودخول الاتحاد الأوروبي على الخط عبر فرنسا، حيث عرض الرئيس إيمانويل ماكرون الوساطة بين الحكومة اللبنانية الجديدة وكل من اليونان وقبرص. من جانبها، أعلنت قبرص اكتشاف 8 تريليونات قدم مكعب من الغاز في البلوك-5 (المتنازع عليه) قبل اكتمال اختبارات الإنتاج
ومع هذه التعقيدات، تواجه سياسة “الحياد” التي أعلنتها الإدارة السورية الجديدة اختباراً صعباً في تجنب الانخراط في صراعات شرق المتوسط، مع الحفاظ على حقوق سوريا في ثرواتها البحرية. يمكن للإدارة السورية تحقيق ذلك من خلال استراتيجية متوازنة تراعي النقاط التالية:
التعاون المرحلي خلال المرحلة الانتقالية:
عند استكمال الأطر الدستورية والتشريعية التي تخوّل سوريا توقيع اتفاقيات لترسيم الحدود أو الانضمام لاتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار، يمكن للإدارة السورية استغلال هذه المرحلة لعرض فرص للاستثمار المشترك وتقاسم الإنتاج في المناطق البحرية المتداخلة مع تركيا، لبنان، وقبرص.
الربط مع مشروع خط الغاز العربي:
يمكن لسوريا الاستفادة من مشروع خط الغاز العربي، المدعوم من قطر وتركيا ومصر والأردن والاتحاد الأوروبي، والذي اكتملت أجزاؤه داخل الأراضي السورية. يشكّل هذا الخط بنية تحتية شبه جاهزة لتلبية احتياجات المنطقة من الغاز، لا سيما مع اهتمام قطر (وهي اللاعب الأهم في سوق الغاز العالمي والخبيرة في بناء منشآت تسييل الغاز وخطوط النقل) بهذا المشروع والذي ترجم فعلياً بدخول شركة “قطر للطاقة” في استثمارات في عدة بلوكات شرق المتوسط في لبنان ومصر وقبرص.
استقطاب مستثمرين جدد:
يمكن لسوريا استغلال التغيرات السياسية “الدراماتيكية” الحالية في المنطقة بدعوة مستثمرين جدد في ملف غاز شرق المتوسط كالسعودية التي تعتبر سوريا ولبنان مناطق ذات أهمية جيوسياسية جديدة. لذا يُمكن أن تهتم “أرامكو”، أكبر شركة نفط في العالم، بالعمل في المياه السورية واللبنانية ذات الأعماق الضحلة نسبياً، لما تتمتع به من خبرات فنية وقدرات جيوسياسية تجعلها شريكاً مقبولاً من مختلف الأطراف الفاعلة في المنطقة.
بالتوافق على مشاريع الاستثمار المشترك، يمكن لدول شرق المتوسط بناء شبكة من المصالح الاقتصادية المشتركة التي تعود بالازدهار على شعوب المنطقة، وتسهم في طي صفحة الحروب والصراعات وفتح آفاق جديدة لعلاقات مستدامة قائمة على المنافع المتبادلة.
المصدر الشرق رياض النزال