أهم الاخبارمقالات

الدفاع عن المنافسة غير العادلة: لماذا يعتبر تشبيه السوق بالمنافسات الرياضية مغالطة؟

 

 بقلم : دكتور محمد جميل الشبشيري  

يُعد مفهوم المنافسة من الركائز الأساسية لاقتصاد السوق الحر، وغالبًا ما يكون أحد أسهل الحجج التي يمكن تقديمها عند الدفاع عن النظام الاقتصادي الحر أمام جمهور متشكك. فمن البديهي أن تؤدي المنافسة إلى تحسين جودة المنتجات والخدمات، وخفض الأسعار، وتحفيز الابتكار. ولكن تكمن المشكلة في أن العديد من الناس يميلون إلى التفكير في المنافسة الاقتصادية بنفس الطريقة التي يفكرون بها في المنافسات الرياضية، رغم أن هناك فرقًا جوهريًا بينهما.

المنافسة في السوق ليست منافسة رياضية

في الرياضة، تكون المنافسة هي الغاية بحد ذاتها، إذ نرغب في مشاهدة الفرق أو الأفراد يتنافسون للوصول إلى الفوز. لذلك، يتم تنظيم المنافسات الرياضية بحيث تكون متكافئة إلى حد ما، مما يجعلها أكثر إثارة. على سبيل المثال، يتم الفصل بين الرجال والنساء في العديد من الألعاب الرياضية، مثل رفع الأثقال أو السباحة، لأن هناك فروقًا بيولوجية تمنح الرجال تفوقًا طبيعيًا في بعض المجالات. وبالمثل، يتم تقسيم رياضات القتال مثل الملاكمة إلى فئات وزن لضمان عدالة المباريات.

لكن هذه المعايير لا ينبغي تطبيقها في المنافسة الاقتصادية. في السوق، لا تهمنا عملية المنافسة بحد ذاتها، بل نهتم فقط بالنتائج، أي جودة وسعر السلع والخدمات. فمثلاً، إذا كانت إحدى شركات البناء توظف عمالًا أغلبهم من النساء، في حين تعتمد شركات أخرى على الرجال الذين يمتلكون قوة بدنية أكبر، فلا ينبغي اعتبار ذلك “غير عادل”، لأن الهدف النهائي هو تقديم خدمات البناء بكفاءة، بغض النظر عن هوية من يقوم بها.

أمثلة من الطبيعة: المنافسة بين الزرافة والغزال

لفهم المنافسة غير العادلة بشكل أوضح، يمكننا النظر إلى المنافسة في عالم الحيوانات. على سبيل المثال، تتنافس الغزلان والزرافات على الطعام في السافانا الأفريقية. كلاهما عاشب ويعتمد على الأشجار كمصدر للغذاء، ولكن الزرافة تمتلك رقبة طويلة تُمكّنها من الوصول إلى أوراق الأشجار العالية، بينما تقتصر الغزلان على الأوراق القريبة من الأرض. في هذه الحالة، يمكن القول إن الزرافات تمتلك “ميزة غير عادلة” لأنها تستطيع الوصول إلى مصادر غذاء لا تستطيع الغزلان الوصول إليها. لكن هل يعني هذا أن علينا التدخل لحماية الغزلان؟ بالطبع لا. بل على العكس، فإن هذه الميزة تعني أن الغزلان والزرافات لا يتنافسون بشكل مباشر على نفس الموارد، مما يسمح لكلا النوعين بالبقاء والتكيف مع بيئتهما بطريقة أكثر كفاءة.

المغالطة الرياضية وتأثيرها على السياسات الاقتصادية

عندما نطبّق منطق المنافسة الرياضية على الاقتصاد، نصل إلى نتائج غير منطقية. فمثلاً، هناك جدل حول ما إذا كانت الشركات الرقمية مثل أمازون تمتلك “ميزة غير عادلة” على متاجر البيع التقليدية، لأنها لا تحتاج إلى دفع الإيجارات الباهظة في مراكز المدن. ولهذا، اقترح بعض السياسيين فرض “ضريبة المبيعات الرقمية” على هذه الشركات لتحقيق “تكافؤ الفرص”. ولكن هذا النهج يتجاهل الحقيقة الأساسية وهي أن الهدف من المنافسة الاقتصادية ليس تحقيق العدالة بين الشركات، بل توفير المنتجات والخدمات بأفضل جودة وأقل تكلفة للمستهلك.

وبالمثل، يزعم بعض السياسيين، مثل الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب، أن بعض الدول تمتلك “مزايا غير عادلة” في التجارة العالمية بسبب دعم حكوماتها لصادراتها أو فرضها تعريفات جمركية أقل على وارداتها. وقد استخدم هذا المنطق لتبرير فرض تعريفات جمركية على السلع المستوردة بحجة تحقيق “تكافؤ الفرص” بين الدول. ولكن هذا النهج يتجاهل أن بعض الدول تتمتع بميزات طبيعية أو جغرافية تمنحها تفوقًا في بعض القطاعات، مثل مناخ إسبانيا المثالي لإنتاج النبيذ مقارنةً بالمناخ البريطاني البارد. فهل هذا يعني أن علينا فرض ضرائب على النبيذ الإسباني لمساعدة المنتجين البريطانيين؟ بالطبع لا.

الخلاصة

يجب علينا التخلي عن فكرة أن المنافسة الاقتصادية يجب أن تكون “عادلة” بالمعنى الرياضي، لأن الاقتصاد لا يعمل بهذه الطريقة. في عالم الطبيعة، تتفوق بعض الحيوانات على غيرها بفضل صفاتها البيولوجية، وفي عالم الأعمال تتفوق بعض الشركات بفضل تقنياتها أو استراتيجياتها. في نهاية المطاف، الهدف الحقيقي من المنافسة هو تحقيق أفضل منفعة للمستهلك، وليس ضمان تساوي جميع المنافسين في نقاط البداية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى