مقالات

الفقد: بين التجربة الإنسانية والرؤية الاقتصادية

 

بقلم د محمد الشبشيري

 

الفقد تجربة عالمية يمر بها الجميع، سواء كان فقدان أشياء مادية مثل الهاتف أو المحفظة، أو فقدان أشخاص وأماكن وأحلام. الفرق بين الضياع والفقد أن الأول عابر ويمكن استدراكه، بينما الثاني قد يكون دائمًا ويترك أثرًا عميقًا. هذه التجربة تعلمنا تقدير ما نملك قبل أن نفقده، لكنها في الوقت نفسه تدفعنا إلى التفكير في كيفية التعامل مع الفقد بطريقة متوازنة.

الفقد في السياق الثقافي العربي

في التراث العربي والإسلامي، نجد أمثلة كثيرة تجسد الفقد ومعانيه. قصة النبي يعقوب -عليه السلام- مع فقدان يوسف تعكس مشاعر الحزن والأمل في آنٍ واحد. كما أن المتنبي، أحد أعظم شعراء العرب، لقي حتفه بسبب بيت شعر قاله، مما يعكس كيف يمكن لكلمة أن تؤدي إلى فقدان الحياة نفسها. كذلك، نجد في المثل العربي “الصحة تاج على رؤوس الأصحاء لا يراه إلا المرضى” تأكيدًا على أن الإنسان لا يدرك قيمة ما لديه إلا بعد فقدانه.

لكن كيف ينبغي لنا التعامل مع الفقد؟ هنا، تقدم الفلسفة الصوفية نهجًا متوازنًا، حيث يدعو ابن عطاء الله السكندري إلى عدم الحزن المفرط على ما فُقد، وعدم التعلق الشديد بما هو زائل، فكل فقد هو فرصة للنمو الروحي والتعلم. كما قال جبران خليل جبران: “لا تقولوا وداعًا، بل قولوا إلى اللقاء.”، في إشارة إلى أن كل فقد يحمل في طياته احتمالات جديدة.

الفقد من منظور اقتصادي

في الاقتصاد، الفقد ليس مجرد خسارة شخصية بل ظاهرة مؤثرة تتجلى في عدة مفاهيم:

  1. التكاليف الغارقة (Sunk Costs): وهي التكاليف التي لا يمكن استرجاعها، مثل الاستثمار في مشروع فاشل. الشخص أو الشركة العاقلة لا تتمسك باستثمارات خاسرة لمجرد محاولة تجنب الفقد، بل تعيد تقييم قراراتها بناءً على المستقبل وليس الماضي.
  2. تكلفة الفرصة البديلة (Opportunity Cost): الفقد لا يقتصر فقط على ما نمتلكه ونخسره، بل يشمل ما كان يمكن أن نحصل عليه ولم نفعل. مثلًا، إذا ركزت دولة على قطاع اقتصادي معين وأهملت قطاعات أخرى، فهي تفقد فرصًا للنمو كان يمكن استغلالها.
  3. الندرة والتغيرات الاقتصادية: الفقد قد يكون نتيجة لندرة الموارد أو الأزمات الاقتصادية. انخفاض إنتاج النفط أو فقدان قيمة العملة بسبب التضخم يؤدي إلى إعادة ترتيب الأولويات الاقتصادية وإيجاد حلول بديلة.

أمثلة عربية للفقد الاقتصادي

  • فقدان قيمة العملة: كما حدث في بعض الدول العربية التي شهدت تضخمًا أدى إلى انخفاض قيمة مدخرات الأفراد، مما اضطرهم إلى البحث عن بدائل استثمارية تحافظ على ثرواتهم.
  • هجرة العقول: الفقد هنا ليس ماديًا، لكنه يؤثر على الإنتاجية والنمو الاقتصادي، حيث يؤدي فقدان الكفاءات إلى تراجع الابتكار.
  • الاعتماد على مصدر دخل واحد: مثل الدول النفطية التي واجهت أزمات اقتصادية عند انخفاض أسعار النفط، ما دفعها لإعادة هيكلة اقتصاداتها وتنويع مصادر الدخل.

خاتمة: الفقد كفرصة للنمو

الفقد ليس مجرد خسارة، بل فرصة لإعادة التقييم والتكيف مع التغيرات. في حياتنا اليومية، يعلمنا الفقد تقدير ما نملك، وفي الاقتصاد، يدفع الشركات والدول إلى تطوير استراتيجيات جديدة لمواجهة التحديات. سواء كان الفقد شخصيًا أو اقتصاديًا، فإن إدراك حتميته يساعدنا على التعامل معه بوعي وتوازن، وتحويله إلى فرصة للتعلم والتطور

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى