مقالات

الإيمان. يحقق الصحة والتوازن الروحي والاجتماعي والمالى

 

بقلم : د محمد جميل الشبشيري

في زمن تتسارع فيه التغيرات الاقتصادية والتكنولوجية، وتتعمق فيه الفردانية، ويستفحل القلق الوجودي، يعود الحديث عن الإيمان إلى الواجهة ليس باعتباره مجرّد قضية لاهوتية أو دينية، بل كحاجة إنسانية شاملة ترتبط بالمعنى، والهوية، والتوازن الاجتماعي والاقتصادي. لقد كشفت الإحصاءات الحديثة أن أكثر من 92% من البالغين في الولايات المتحدة يصرّحون باعتقادهم في بُعدٍ روحي يتجاوز العالم المادي، وهو مؤشر على عودة الخطاب الإيماني في الغرب بعد عقود من العلمنة والتشكيك.

ومع ذلك، فإن هذا “الحنين الروحي” لا يخلو من المفارقة. إذ تشير دراسات صادرة عن مركز بيو للأبحاث وجامعة هارفارد إلى أن الأشخاص الذين يمارسون شعائر دينية بانتظام يتمتعون بصحة نفسية وجسدية أفضل، ويعيشون أطول، ويعانون من معدلات اكتئاب وانتحار أقل بنسبة تتراوح بين 20 و30%. وهو ما يعيد تسليط الضوء على الوظيفة التكاملية للإيمان، لا كمعتقد ذهني فقط، بل كمصدر للسلوك الأخلاقي، والدعم الاجتماعي، والرفاه العام.

وفي حين يعيد الغرب اكتشاف الحاجة إلى الإيمان، تنطلق المجتمعات الإسلامية من رصيد روحي وثقافي عميق يمنح الإيمان طابعًا تكامليًا. فالقرآن الكريم يفتتح أولى صفحاته بتعريف جامع للإيمان: “الذين يؤمنون بالغيب، ويقيمون الصلاة، ومما رزقناهم ينفقون…” [البقرة: 3]، مشيرًا إلى أن الإيمان الحق ليس مجرد تصديق، بل التزام عملي يظهر في العبادة، والعطاء، والصدق مع الذات والآخر.

ولا تتوقف تجليات الإيمان عند حدود الفرد، بل تنعكس في النظام الاجتماعي والاقتصادي. فمثلاً، نظام المواريث في الشريعة الإسلامية يُعد من أبرز النماذج التشريعية التي تجمع بين العدالة والتوازن الاجتماعي، إذ يضمن توزيعًا منصفًا للثروة بين الجنسين والأجيال، ويحدّ من التمركز المالي، ويعزز مفهوم التكافل العائلي، وهو ما تؤكده دراسات مقارنة في الاقتصاد الإسلامي والأنظمة المالية الحديثة.

وتُعد أخلاقيات الأعمال أحد أبرز الميادين التي تُظهر العلاقة بين الإيمان والاقتصاد. فالمبادئ الإيمانية مثل الصدق، والأمانة، والعدل، والنية الطيبة، ليست مجرّد قيم نظرية، بل تشكّل أسسًا عملية في تنظيم المعاملات، وضبط الأسواق، وبناء الثقة بين الفاعلين الاقتصاديين. وتشير بيانات مؤسسة “إيدلمان” (Edelman) إلى أن الثقة في الشركات التي تلتزم بمعايير أخلاقية عالية تتجاوز 70% من المستهلكين، مقابل أقل من 30% في المؤسسات التي تفتقر إلى تلك المعايير، وهو ما يعكس الدور المتزايد للأخلاق في بناء اقتصاد إنساني ومستدام.

ومع تصاعد الأزمات الاقتصادية، وتزايد حالات الانتحار في مجتمعات الرفاه، وتراجع الثقة بالمؤسسات السياسية، يتجه الناس مجددًا نحو مفاهيم بديلة تستعيد القيم العليا، مثل التسامح، والتكافل، والصدق، والضمير، وكلها مفاهيم متجذرة في بنية الإيمان. وقد كشفت الجائحة الأخيرة، وما صاحبها من انكشاف للمنظومات الصحية والاجتماعية، عن تعطّش البشر إلى ما يمنحهم أملًا ومعنى، ويعيد ربط الإنسان بالكون، والتاريخ، والآخر.

وما يجدر التأكيد عليه أن الإيمان، وإن اختلفت صوره وتعبيراته بين الثقافات والديانات، فإنه في جوهره تجربة وجودية تسعى إلى تهذيب الذات، وتحقيق العدالة، وترسيخ الأخلاق في الاقتصاد والسياسة والسلوك. وقد أوجز القرآن هذا المعنى بقوله: “قولوا آمنا بالله وما أُنزل إلينا وما أُنزل إلى إبراهيم…” [البقرة: 136]، في دعوة إلى إيمان جامع يتجاوز التعصب، ويخاطب الإنسان في جوهره.

إن العودة إلى الإيمان ليست ارتدادًا عن التقدم، بل هي شرط لاستدامته. ففي عالم يعاني من الفقر الروحي رغم ثرائه المادي، يظل الإيمان الجسر الذي يصل بين العقل والقلب، بين المسؤولية الفردية والواجب الجماعي، وبين التقدم المادي والتوازن الأخلاقي.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى