الأطفال ومخاطر الإنترنت

بقلم د. محمد جميل الشبشيري
في عام 2023، اهتزت مصر بحادثة مروعة كشفت عن أقصى درجات الخطر الذي قد يتربص بالأطفال عبر الإنترنت. طفل لم يتجاوز الثالثة عشرة من عمره تعرض للاستدراج عبر إحدى منصات الإنترنت المظلم، حيث بدأت القصة برسائل خفية داخل ألعاب إلكترونية وتطبيقات محادثة مغلقة. تمكن الجناة من كسب ثقته تدريجيًا حتى تم اختطافه، ثم ارتكبوا جريمة قتله وتقطيع جسده أمام أعين شبكة مغلقة من المستخدمين عبر بث حي. هذه الجريمة البشعة أثارت صدمة مجتمعية كبيرة، وأطلقت موجة من الجدل حول ضرورة فرض رقابة صارمة على الفضاء الإلكتروني، إلى جانب حملات توعوية تستهدف الأسر والأطفال لتحصينهم ضد هذا النوع من الاستدراج الإجرامي.
ورغم خصوصية هذه الحادثة، فإنها تنتمي إلى واقع عالمي أكثر اتساعًا، حيث تتزايد المخاوف بشأن حماية الأطفال في العصر الرقمي، وتتجدد الأسئلة حول كيفية التوفيق بين ضرورة الحماية والحفاظ على حريات الإنترنت الأساسية. في بريطانيا، دخل قانون الأمان على الإنترنت حيز التنفيذ مؤخرًا، وهو قانون يمنح هيئة الاتصالات سلطات واسعة تصل إلى فرض غرامات على الشركات تصل إلى 10% من إيراداتها العالمية، وقد تطال العقوبات التنفيذيين الكبار بالسجن إذا فشلوا في الالتزام بالمعايير الجديدة.
ورغم أن الحملة الترويجية لهذا القانون ركزت بشدة على حماية الأطفال، إلا أن العديد من الخبراء حذروا من أن تطبيقه يتجاوز هذه الغاية، ويمس جميع مستخدمي الإنترنت عبر فرض قيود تهدد حرية التعبير والخصوصية. البعض اعتبر أن هذا المسار يخدم في نهاية المطاف مصالح كبرى الشركات التكنولوجية، التي تملك الموارد اللازمة للامتثال، على حساب المنصات الصغيرة والمتوسطة التي تجد نفسها غير قادرة على مجاراة التعقيدات التنظيمية الجديدة. الواقع يؤكد هذه المخاوف، إذ اضطرت منتديات شهيرة مثل “London Fixed Gear and Single-Speed” و”Microcosm” إلى إغلاق نشاطها في بريطانيا، بعدما عجزت عن تلبية متطلبات القانون.
الأرقام العالمية ترسم صورة مقلقة لهذه الإشكالية؛ إذ تشير تقارير منظمة الأمم المتحدة للطفولة (يونيسف) إلى أن نحو ثلث مستخدمي الإنترنت حول العالم هم من الأطفال، بينما أظهرت إحصاءات أخرى أن أكثر من 60% من الأطفال بين سن الثامنة والثانية عشرة قد تعرضوا لشكل من أشكال الخطر الرقمي، سواء عبر التنمر الإلكتروني أو محاولات الاستدراج أو التعرض لمحتوى غير ملائم. وفي تقرير آخر صادر عن مؤسسة Internet Watch Foundation، تبيّن أن عام 2023 شهد زيادة بنسبة 64% في الصور والمقاطع التي توثق استغلال الأطفال عبر الإنترنت مقارنة بالعام الذي سبقه.
محاولات التقنين لا تقتصر على بريطانيا وحدها، بل تشمل جهودًا متنامية حول العالم. فقد تبنى الاتحاد الأوروبي استراتيجية رقمية شاملة تهدف لحماية الأطفال، بينما شرعت أستراليا مؤخرًا في حظر استخدام وسائل التواصل الاجتماعي لمن هم دون السادسة عشرة. وفي مصر، تتزايد جهود وزارة الداخلية لتعزيز قدرات وحدة مكافحة الجرائم الإلكترونية، إلى جانب إطلاق برامج توعية مكثفة داخل المدارس.
رغم هذه الجهود، يبقى التساؤل الأهم: من الذي يجب أن يقرر ما يجب أن يراه الأطفال على الإنترنت؟ الرأي الغالب، كما تعكسه استطلاعات الرأي العالمية، يرى أن هذا الدور يجب أن يظل بيد الأسر لا الحكومات أو شركات التكنولوجيا الكبرى، خصوصًا أن قدرة الأطفال على التعامل مع المحتوى تختلف باختلاف أعمارهم ونضجهم العقلي. كما أن هناك جانبًا آخر غالبًا ما يُهمل في هذا النقاش، وهو حق الطفل في الوصول إلى المعلومات. فرغم ضرورة حجب المحتوى الصريح أو الإباحي عن القصر، إلا أن بعض المواد المصنفة بأنها “مؤذية نفسيًا”، مثل صور الحروب أو الكوارث، قد تحمل أيضًا قيمة تعليمية مهمة.
في نهاية المطاف، يظهر أن الاندفاع نحو حماية الأطفال، رغم وجاهته وأهميته، يجب أن يتم بحذر شديد، حتى لا يتحول الإنترنت إلى مساحة خانقة للحرية والمعرفة. حماية الأطفال مسؤولية جماعية تتطلب تعاون الأهل والحكومات والشركات والمجتمع المدني، ضمن رؤية متوازنة تحترم حقوق الطفل في الحماية كما في التعلّم والنمو.